عاجل
هيئة التراث السعودي تعلن اكتشاف دلائل على استيطان بشري منذ العصر الحجري الحديث في أحد كهوف المدينة المنورة         نيابةً عن سمو وزير الخارجية.. نائب وزير الخارجية يشارك في مؤتمر باريس حول السودان         الفيلم السعودي “نورة” ضمن البرنامج الرسمي لمهرجان كان السينمائي 2024         سمو وزير الخارجية يبحث مع نظيريه الأمريكي والإيراني تطورات الأوضاع في المنطقة وجهود احتواءها         ضبط رجل أعمال قطري هارب من 142 سنة سجنًا بالشيخ زايد         التحقيق في إطلاق النيران بين بلطجية بزعامة موظف بحي الهرم         كم يوم باقي على عيد الفطر 2024.. الإفتاء تستطلع هلاله الاثنين وهذه مواعيد صلاته         نزلت تاني.. انخفاض أسعار الدواجن والبيض قبل العيد بأيام         هل من مات في العشر الأواخر من رمضان دخل الجنة مهما كان عمله؟         استئناف نسرين طافش على حبسها 3 سنوات.. الأربعاء المقبل         سعر الدهب عيار 24 اليوم 31-3-2024         السودان تزف بشرى سارة لأبنائها المقيمين في مصر | تفاصيل         العشق الممنوع يتسبب فى إنهاء حياة طفلة على يد أمها| القصة الكاملة         بتشيش على القهوة.. ياسر أمام محكمة الأسرة: قابلت مراتي مع راجل قالتلي ده صديقي         تهدد سلامة السائق.. استدعاء سيارة آودي e-tron GT بسبب مشاكل بالبطارية        

محمد الصباغ.. يكتب: تحت سطح البحر (قصة قصيرة)

محمد الصباغ

1

في الأصل كان كائناً بشرياً ولكنه كان حالماً بأكثر مما كان يحلم البشر الحالمين العاديين ، وكان جاداً كطبيعة الفقراء الجاديين ولكنه كان مغامراً لحد المقامرة ، فلم يعد يملك أي شيء يمكن أن يخشى فقده أو ضياعه ،  وكانت ميزته الخاصة ؛ وكأنه خلق بشرياً فريداً ليعيش بطبيعته البشرية تحت سطح ماء البحر ؛ فقد كان قد اعتاد العيش تحت سطح الماء ؛ يتنفس بقدر ويسبح بقدر حاجته ، يأكل من ورق أشجار البحر ويأكل من ثمار أشجار البحر ويصادق الأسماك الآنسة للبشر والآكلة للحوم البشر وأصبح جار الأسماك كلها ؛ كما أصبح جار لكل أهل البحر وكائناته ؛ يعيش في وحدته البشرية وسط الكائنات البحرية .

كان من تحت الماء يرى السفن المُبحرة والماخرة عباب البحر ويرى الشباك الجارفة لتصيد ما في الأعماق ؛ لم يكن يعيش فى غواصة شفافة تحميه ؛ بل كان يعيش في الماء ومواجهاً للماء وملاصقاً للماء ويتنفس من تحت الماء ؛ حيث كان بقدرته سحب ما يشاء من أكسجين الماء تحت سطح البحر  وكان يرى اللؤلؤ دانياً بعد أن تهيأ في محاراته وخرج عن أصادفه ؛ كان يرى الأحجار الكريمة دانية بألوانها وبأضعاف ألوانها ، كان يرى حقيقة الأشياء تحت سطح الماء فقد كانت حقيقتها مؤكدة غير زائفة ؛ حيث كان الماء شفافاً ؛ تساعد شفافيته على مزيد من وضوح البصيرة والرؤية . وقد تحول جسده في حياته في الماء ، إلى بلور شفاف بفعل كثرة ما خالط من ماء ؛ بل صار وكأنه إمتزج بماء البحر فصار جزءاً من البحر وكأنه كائن شفاف من ماء ؛ بل أصبح أحيانا نوراً مشعا تحت سطح الماء وكأنه قد أصبح كائناً ملائكياً مُصطفى ليعيش تحت الماء ؛ دون أن يتخلى عن طبيعته البشرية وأحاسيسه البشرية وكيانه البشري .

كان البحر كله تحت الماء بإمكانه وكان قادراً على إمتلاكه ؛ ولكن ما لم يكن في إمكانه هو أن يظهر فوق سطح الماء بأي مما يستطيع إمتلاكه تحت سطح الماء ، فقد اختص بتجربته الفريدة ، كاختبار خاص له من القدر المكتوب للكائنات ؛ كل واختياره وما تصنعه مجموعة اختياراته .

بعد حياة طالت تحت سطح الماء ؛ بشرياً وحيداً ؛ خالجه شعور غريب بالوحدة لأول مرة منذ عاش حياة البحر ومنذ خبر في نفسه القدرة على أن يحيا الحياة تحت سطح ماء البحر ؛ وقرر أن يلتمس أول بشري يصادفه في البحر وأن يأتنس بأول إنسان يجد فيه هوى حياة البحر والقدرة على أن يحيا معه تحت سطح الماء ؛ قرر أن يخوض التجربة غير متحسباً للعواقب والنُذر والتحول الذي أصبح عليه بعد أن قرر أن يعيش قدره ؛ فقد أصبح خليطاً ملائكي ومن طبيعة البشر : نصف إنسان ونصف متحول إلى كائن بحري .

دون أن يظهر فوق سطح الماء إقترب من أحد الشطوط التى كان يرتادها حين كان يحيا حياة البر والتي إعتاد أن يمضي بها وقتاً كلما إشتاق إلى البحر والتي إعتاد أن ينزل الماء بها ليعوم ويطوع جسده وروحه على السباحة ؛ كان يعوم بعيداً عن الشط حتى يصبح الشط بعيداً بعيداً حيث يمكث ما شاءت رغبته من وقت ؛ حتى إذا مل في مكوثه من تأمل الحياة على الشط البعيد عاد متأنياً ، مسترجعاً مع كل عوم إلى الشط قطعة من ماضيه .

2

فى تجربة الحنين إلى رؤية الشط ولو من تحت سطح الماء والإئتناس بالبشر من بعيد ، أصبح في ذات البقعة من البحر التي إعتاد أن يمكث فيها قديما .  وعندما  أصبح من بقعته يستطيع بوضوح أن يرى من عاموا وسبحوا بعيداً عن الشط ؛ شاهد اثنين يصارعان الغرق ؛ كانا زوجين ؛ نزلا البحر معاً وأغرقهما البحر معاً وقد صارعا البحر دون إنتصار ودون هزيمة ؛ وقد بدا له أن كلا منهما في محاولة النجاة كان يصارع من أجل نفسه أولا دون التوقف عند مصير الآخر ؛ وقد رغب في النجاة وحده فصارع كلاهما الموت غرقاً منفرداً وهذا ما أوهنهما من النجاة ؛ وفي لحظة تأملهما قبل أن يتجه نحوهما شغله : كيف يفكر كلاهما في نفس الوقت في النجاة منفرداً ؟! بل كيف يمضي أحدهما كما بدا له ؛ في قتل الآخر إذا ما كان في ذلك سبب نجاته !! .

سبح نحوهما وقد أراد إنقاذهما معاً وفي نفس الوقت وجرب من حيث كونه تحت سطح الماء أن يكون مساعداً لهما في الطفو دون أن يظهر حتى لا يفقد هو خاصية العيش تحت سطح الماء ويفقد ما تبق له من حياة ؛ فأخذ يدفع بهما إلى أعلى وسط حرصه على ألا يراه أحد أو يكشف سره أحد حتى الغارقين اللذين يصارعان الموت ويأملان الحياة .

كان ميالا لإنقاذ الأنثى ؛  فقد بدا أن رفيقها لم يمنحها أي إثار على نفسه ورغب أن ينجو وحده حتى لو هلكت هى . لاحق رفيقها  بمجموعة دفعات لأعلى ونحو إتجاه الشط ولكنه لم يستجب لدفعاته المنقذة فقد تخشب جسده بفعل الشد العضلي وبفعل الإجهاد من السباحة ؛ فلم يكن  بإمكانهما أن يصلا إلى هذا المكان من البحر إلا إذا كانا يجيدان السباحة وقد سبحا طويلا وهما يعرفان جمال هذه البقعة من البحر الواسع الذى يواجه الشط الجميل ؛ والتى تجاور الجزيرة الصخرية الخالية عادة من البشر ؛ إلا من العاشقين ومن راغبي المتعة والذين يتخذون من أرضها سريراً كبيراً ؛ لممارسة الجنس .

خمن أنهما كانا في طريقهما إلى الجزيرة الصخرية لتمضية خلوة ؛ حين فاجأهما طارئ أدى بهما إلى مصارعة الغرق والبقاء على الحالة التي رصدهما فيها ؛ حين أتى هو بالشوق إلى ذات البقعة التي دائماً رغم كل ثراء حياة أسفل البحر التي يحياها ؛ كان يحن أن يراها ثانية وأن يعيش ماضيه فيها !! .

3

لم يستجب الذكر  الوسيم الذى حال الوقوع في دائرة الغرق دون أن يخوض تجربته المشتهاة على أرض الجزيرة ؛ فدفعه دفعة النجاة الأخيرة التى يمكنه أن يقدمها له ؛ دفعة قوية وتركه لمصيره إن طفا نجا ، والتفت إلى الأنثى الشابة الجميلة  المغامرة وقد ظنته شيئا يمكن أن تتشبث به أو تطفو عليه حتى تخرج من دوامة الغرق ولم  تدري كنهه ولا ماهيته ، كان فقط شيء ووسيلة للنجاة ؛ لم تر منه شيئاً ملموساً فقد كانت مغمضة العينيين بفعل دخول الماء والملح إلى داخل عينيها وأنفها وحنجرتها ورئتها ؛ كما كانت لا ترى بفعل معاكسة أشعة الشمس التى كثفت على عينها سحابة ضباب وكانت تشهق من إبتلاع الماء المتوالي الذي يجعلها ” تشرق”  حتى الإختناق المانع للرؤية ، كانت عمياء تغرق.

كان ميالا لأن يقتنص الأنثى التي ألقها الغرق إليه ؛ كان ميالا لأن يقتنص الأنثى لنفسه بعد أن غرق نصفها المُفرط فيها والساعي للنجاة وحده ، وقد أراد أن يستخلصها لنفسه ولحياته تحت سطح الماء كغنيمة غرق . كان ميالا لسبب شهواني مفاجيء أجج فيه ذكوريته المعطلة بالوحدة تحت سطح الماء ؛ كانت تجربة الإنقاذ هى الإختبار الأول لقدرته بعدما أصبح مُحلى بقدرة وسلطة العيش تحت سطح البحر  والقدرة على التنفس الذاتي من مخزون الأكسجين الفائض عن حاجة السنيين التي سبق وعاشها فوق سطح البحر .

كان قد عاش حياته السابقة يُجري الصفقات ؛ فهو قد أجرى صفقة مع كل ما هو أقوى منه ، وصفقة أخرى مع الحاكمين وصفقة أخرى مع من يحتاجهم ويعتمد عليهم من البشر  وأصبح في ظنه أنه الآن أمام صفقته الأخيرة المُتمة لحياته . وقد آن الآوان لوقف تسلسل الصفقات ، فقد آن آوان الشبع والاكتفاء بعد الجوع والحاجة والبحث عن الشبع .

كانت الأطياف الأنثوية العارية المثيرة المضاجعة دائماً تداعب خياله وكانت الصفقة الأنثوية المشبعة ؛ هى الصفقة  التي لم يسبق له أن أجراها من قبل في ماضي حياته ؛ عندما أصبحت ملك قدرته بعد أن أوشك على إنقاذها . وقد عاش لحظات تذكر فيها وكأن طيفها الشهواني هو من قد سبق وزاره في خلوات وحدته وقد أكل الطيف بكل عريه وكل شهواته وخالجه الشعور وكأن المصادفة كانت ترتيباً لا يمكن رده واستشعر فداحة خسارته بتركه حياة البر الشهوانية وعيشه حياة البحر المقيدة وظن لوهلة وكأن طيفها هو من دعاه للإقتراب من الشط حيث بقعة الغرق وحيث صراع المصائر الذي جرى ؛ وشاهده بعينيه ؛ وشارك في بعض لحظاته الفارقة.

4

كان تحت سطح البحر كله بإمكانه وكان قادراً على إمتلاكه ولكنها كانت أنثى من خارج هذا العالم ؛ وكانت المشكلة التي ظهرت له في التو ؛ أن قدراً جديداً عليه أن يعيشه ؛ فلم يكن فى إمكانه أن يظهر فوق سطح الماء بأي مما يستطيع إمتلاكه ويبهر به هذه الأنثى الوافدة ؛ بما يجعلها تحت سيطرته دون أن تفلت منه أو تموت منه تحت سطح الماء .

إلتفت إليها مجدداً بعد أن زادت حيرته ؛ فوجدها تتشبث به بعد أن فاقت قليلا وقد استشعرت أنه غير رفيقها الغريق ووجدها تحثه أن يذهب بها إلى الشط ؛ فساعدها على الإختيار الذي أرادته ، وتردد حين كان يتأملها وهى تعود للحياة من الغرق : أتساوي هذه الأنثى مهما كان شأنها أو جمالها أو المتعة المتحصلة معها ؛ اختبار القدر الجديد الذى عليه أن يخوضه ؟؟  أتساوي أن يضحي بكل ثراء حياته تحت سطح الماء ؛ من أجلها أو من أجل مغامرة معها ؟! وتراجع عن شهوانيته لحساب أمنه واستمراره تحت سطح البحر وفي حضن قلب الماء ورحم البحر .

استقر قراره وجعلها تفلت وتبدأ رحلة العودة إلى الشط رغم إشتهائه لها وقدرته على إقتناصها وسحبها معه لتعيش في عالمه المسحور الممتد تحت سطح الماء والمحجوب عن الوضوح لغيره من البشر والذى يحوي كل المتع إلا أن يظهرها ساكنه فوق سطح الماء .

 دفعها بعيداً في تلاحق نحو الشط ، وهو يمسك بجثمان الذكر الذى كان بالفعل قد أصبح غريقاً ؛ ولكن دفعاته من تحت سطح الماء لم تكن كافية لها لتصل إلى الشط ؛ فظهر بنفسه فوق سطح الماء مخترقاً محظور وجوده الجديد وطبيعته الجديدة ؛ وحين ظهر فوق سطح البحر ؛ أفسد أكسجين الهواء ؛ أكسجين البحر الذى إعتاد عليه كما أفسد جهاز تعايشه المعدل وجهاز تنفسه المُحور المعتمد على مخزونه من أكسجين الماضي ؛ فبات موته بالسكتة التنفسية وشيكاُ ؛ لم يقاوم حدوثه ؛ بل استسلم لحدوثه ، وظل رافعاً رأسه فوق الماء ينعم بمشاهدة لحظات حياته الأخيرة وينعم بمشاهدة الحلم الشهواني الذي راوده يصل إلى الشط آمناً من الموت غرقاً . فلما أصبح هو وهما فى نطاق ملامسة الأرض ترك الأنثى تخطو نحو اليابسة ؛ بينما وجد جثمان رفيقها طريقه إلى الشط طافياً وكأنه كان ناج .

وعندما نفدت منه نهائياً القدرة على الحياة فوق سطح البحر ؛ مات وهو ملقياً نظرته الأخيرة على الغارقة الناجية .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى